لولا صلوات أيام الجمع في الحرم القدسي، لكان رمضان الفلسطيني عربياً إسلامياً صرفاً: من ساعة الإمساك إلى دقيقة الإفطار. وفي بقية أيام الأسبوع وطوال الشهر الفضيل، لا شيء يميز أسواق الحواضر الإسلامية من مضيق طنجة إلى مضيق ملقة (مالاقا)، سوى بحث الناس عن أطايب مائدة الإفطار.
رسّام كاريكاتور في الزميلة «القدس» المقدسيّة، اختصر الصّائم الفلسطيني (والعربي والمسلم) في رسمتين متشابهتين في كلّ شيء إلا في «تكوّر» بطن الصائم بعد الإفطار. وفي الرسمتين يقول «آخ آخ».
«الآخ» الأولى كناية عن قرصة الجوع؛ والثانية تعبير فصيح عن تُخمة الشبع. لماذا «كناية» عن الجوع و»فصاحة» تعبير عن الشبع؟
لو لـ «قرصة الجوع» لسان ما نطقت. الجوع – إذا تأفّف – أخرس، أو عَبُوس، أو نزق الطبع. وأمّا تُخمة الشبع فهي ذات فصاحة في التأوّه «آخ.. آخ».
في «الصفحات الرمضانية» تتبارى الصحف في المواعظ كثيراً، وبعضها في المفيد من المعلومات عن حواضر الإسلام الزاهرة أيام صدر الإسلام الزاهر.. وجميعها ملأى بمسابقات بليدة (البطنة تذهب بالفطنة)، وذات جوائز سفيهة، أيضاً. لماذا سفيهة؟
ألا يكفي أن «الصّائم» يُقبل في الشهر الفضيل، على الطعام إقبال الطَغام، ويصرف من ماله أربعة أضعاف المعدّل الاعتيادي؛ حتى تكون الجوائز الرمضانية كافة لا تتعدى التشويق إلى تملك السلع الاستهلاكية الكمالية؟
لو نظرتم إلى الصفحة الرمضانية في «الأيّــام»، لأحصيتم 34 «جائزة».. ليس من بينها «دائرة معارف» أجنبية مثلاً، أو دائرة معارف فلسطينية (الموسوعة). ليس في عدادها (أو عداد غيرها) تأمين على الحياة، ولو جزئياً، أو حتى تأمين لنصف عام على السيارة (السيّارة قمّة الجوائز لدى المصارف والشركات الكبيرة).
وبالذات، لم يفكر أحد بجائزة مفيدة، مثل: عدد بسيط من الأسهم في شركة تجارية، أو في المصرف ذاته. هناك في سورية، مثالاً، «شهادات استثمار»، وفي مصر «صندوق توفير البريد». إن مبلغاً بسيطاً باسم المولود الغالي يتم تغذيته بمبالغ بسيطة، سوف يساعد الولد، وقد أدرك سنّ الشباب، على إكمال دراسته الجامعية.. دون حاجة للتبرم من ارتفاع الأقساط، والتذمر من بخل السلطات في الإنفاق على تعليم جيش من الأكاديميين، وفي الأغلب تعليم أكاديمي نظري لا يتوافق وحاجات المجتمع الجديد، أو المتجددة باستمرار.
* * *
المسلمون «شعبٌ أبويٌّ» وبشكلٍ مفرطٍ أكثر من بقية معظم الشعوب، غير أنهم في الشهر الفضيل يكادون يصيرون شعباً أمومياً. كيف؟
معظم لغات العالم تنطق اسم الأم والأب (بابا. ماما) وقد كوّرت شفاهها، كما يفعل الطفل الرضيع.. الجائع إلى الطعام الجسدي والطعام الروحي.
الشعوب الأمومية شعوب فموية، وفي الشهر الفضيل «يصعّد» الصّائم عادة الرضاعة إلى عادة الإقبال على الأطايب، وملء المعدة بما فوق طاقتها.. وأمّا: «ما ملأَ امرؤٌ وعاءً شرّاً من بطنه” فهي حكمة نتلقّاها في دروس الدّيانة خلال المرحلة الابتدائية، وتبرز لأعيننا في ثنايا «الصفحات الرمضانية». إن ما يشبه «العادة الفموية» تتسيّد بقية العادات الحميدة.
قد يبدو هذا الكلام استدراجاً فظّاً غير أنّك لو طالعت تحقيق «الحسبة في رمضان» كما نشرته «اليوم الثامن» ستجد أن رجال الدفاع المدني، وطواقم الأطباء، لا يتحسّرون على شيء سوى حرمانهم “لقمة الأم” ساعة الإفطار، أو ساعات اجترار الطعام فوق الطعام حتى ساعة السحور. كما لو أن مستشفيات العالم الغربي تخلو من أطباء طوارئ في ليلة رأس السنة.
من الطبيعي أن تستجيب المعدة إلى ميكانيكية الامتلاء – الخواء، فيشعر الصائم، بعد ساعات الصيام الأولى، بجوع وهمي، لأن المعدة صبّت كثيراً من عصارتها الهاضمة لحماية هذا المخلوق المجترّ بشراهة من عوارض التخمة. أين حكمة «بضع لُقَيْمَاتٍ تقيم الأود»؟ إنها في الكتب.
إن ما يشفع لجعل شهر الصّيام أيّاماً للاجترار حتى التخمة، وعادة للاستهلاك المفرط في الطعام، هو فريضة صلاة الجمعة.. في فلسطين خاصة، حيث الحرم القدسي يغصّ بالمصلّين على رحبه (حتى بعد تأهيل «المصلّى المرواني»)، وفي هذه العبادة رسالة مزدوجة إلى سلطات الاحتلال: دينية وسياسية، تؤكد مركزية القدس الفائقة لدى الشعب الفلسطيني.
* * *
رغم الشكوك والشكوى من تكنولوجيا الاتصالات الحديثة (في كل خير شر وبالعكس) غير هذه التكنولوجيا تستخدم استخداماً مكثّفاً في العالم الاسلامي لصالح العادات والعبادات الاسلامية.. وأحياناً بشكل مفرط، مثل نقل صلاة عادية على شاشة التلفاز من أولها إلى آخرها.
الذي يؤدّي فريضة الصّلاة لا يحتاج إلى الشاشة، والذي لا يؤدّيها قد يحتاج إلى وقتٍ مفيدٍ لتوسيع معارفه ومداركه العامة.
كل عام وأنتم بخير.
المصدر: صحيفة الأيام
ي.ك