“رب ضارة نافعة”، لسان حال صناعة الفوانيس في مصر قبيل شهر رمضان الكريم بعد الارتفاع الكبير للدولار أمام الجنيه وتقييد الاستيراد، ليفضي ذلك إلى رواج الفوانيس المحلية التقليدية بعد سنوات من منافسة الألعاب الرمضانية المستوردة لتلك المصنعة محليا.
يقول تجار وأصحاب ورش إن الموسم الرمضاني هذا العام غير أي موسم بعد موجة الغلاء الكبيرة التي ضربت البلاد من دون أن يتحسَّب لها أحد، ودفعت أسعار المواد الخام ولوازم الإنتاج إلى أرقام كان من الصعب تخيّلها في أي وقت مضى.
وتراجع سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار إلى نحو 31 جنيهًا، مقابل 15.75 جنيهًا العام الماضي، وأدى انهيار العملة المحلية إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية، بسبب زيادة تكلفة الواردات بالنقد الأجنبي وارتفاع تكلفة الإنتاج.
قفز معدل التضخم الأساسي السنوي إلى 40.3% خلال شهر فبراير/شباط الماضي مقارنة مع 31.2% في يناير/كانون الثاني الماضي، وفقًا لبيانات من البنك المركزي. أما معدل التضخم السنوي في المدن المصرية فقفز في الشهر ذاته إلى 31.9% مقابل 25.8% في يناير/كانون الثاني الماضي، حسب بيان من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
تراجع صناعة الفوانيس مع انهيار الجنيه
هذه القفزة في معدلات التضخم، التي تجاوزت توقعات المحللين، انعكست على أسعار الفوانيس بجميع أنواعها؛ جراء ارتفاع أسعار الخامات المحلية والمستوردة، وأصبح سعر أقل فانوس تقليدي من الصاج بطول 15 سم 50 جنيهًا (1.6 دولار).
مثل أي سلعة استهلاكية، تأثرت صناعة الفوانيس سلبًا بانهيار سعر صرف الجنيه، حسب قول عيد عبد السلام، وهو بائع فوانيس وألعاب وزينة رمضانية في إحدى ضواحي محافظة الجيزة، اعتاد جلب الفوانيس من ورشته في مصر القديمة وعرضها قبل أسابيع من شهر رمضان.
ويوضح عبد السلام -في حديثه إلى “الجزيرة نت”- أن الأزمة الاقتصادية وانهيار الجنيه وتوقف الاستيراد عوامل كان لها مردود سلبي وإيجابي على صناعة الفوانيس. فمن ناحية ارتفعت أسعار لوازم الإنتاج، خصوصًا الزجاج الملون والصاج، ومن ناحية أخرى منحت الورش فرصة للوجود والإنتاج من دون مزاحمة من الواردات الصينية التي كانت تغزو الأسواق.
ويضيف عبد السلام أن “الأشكال التقليدية للفوانيس التي تصنع من الصاج والزجاج الملوّن وبداخلها شمعة مضيئة هي أفضل ما يعبّر عن شهر رمضان والأكثر شهرة وقربًا إلى النفوس”، وتراوح أسعارها بين 50 جنيهًا لأصغر فانوس و3 آلاف جنيه للفانوس الضخم (الدولار يساوي نحو 31 جنيهًا).
ويتابع “إضافة إلى الصاج، هناك أنواع أخرى من الفوانيس الخشبية والبلاستيكية، وهي أكثر أمانًا للأطفال، والخيامية (أي المصنوعة من قماش مطبّع باللون الأحمر والأزرق)، والخرزية المصنوعة من الخرز وهي يدوية بالكامل وقوية، ويراوح سعر القطعة المتوسطة الطول (25 سم) بين 150 جنيهًا و400 جنيه بحسب المواد المستخدمة.
“افسحوا الطريق للنساء”!
تحرص الأسر المصرية على شراء “فوانيس رمضان” في عادة لم تنقطع منذ أكثر من ألف عام، إذ تُعد من أشهر طقوس الاحتفال بالشهر الكريم في أرجاء البلاد، وارتبط الابتهاج بالفوانيس بكثير من الأغنيات الفلكلورية القديمة منذ عقود.
ويعود تاريخ “فانوس رمضان” إلى أكثر من ألف سنة خلت، وهناك 3 روايات مختلفة تخبرنا عن أصل الحكاية التي ارتبطت بالفاطميين الذين كانوا يحكمون مصر آنذاك، إذ كان الحاكم يخرج إلى الشوارع ليلة الرؤية ليستطلع هلال رمضان، وكان الأطفال يخرجون معه ليضيئوا له الطريق، وفي يد كل واحد “فانوس”.
الرواية الثانية تعود إلى رغبة أحد حكام الدولة الفاطمية في إضاءة شوارع القاهرة عاصمة الدولة طوال ليالي رمضان، فأصدر أوامره بتعليق الفوانيس في المساجد وأن تضاء بوضع الشموع داخلها.
أما الرواية الثالثة فتعود أيضا إلى العهد الفاطمي، وارتبطت بالسماح بخروج النساء في شهر رمضان، وكان يتقدمهن أثناء سيرهن في الشوارع غلام يحمل مصباحًا (فانوسا) لتنبيه المارة إلى وجود سيدات يسرن في الطريق، فلا يزعجهن أو يضايقهن أحد.
تحديات التكلفة وتراجع الإقبال
يقول نائب رئيس شعبة الأدوات المكتبية وألعاب الأطفال بالغرفة التجارية في القاهرة بركات صفا إن “هناك قرارًا رسميا يحظر استيراد الفوانيس من الخارج (الصين) عام 2015، وذلك ضمن قرارها بمنع استيراد السلع ذات الطابع الفلكلوري وللحفاظ على المنتج المحلي”، مشيرًا إلى أن الموجود حاليا في الأسواق هي الألعاب الرمضانية التي تأتي بوحدات صوت وحركة وإضاءة للأطفال.
ويوضح صفا -في حديثه إلى “الجزيرة نت”- أن الإقبال على الفوانيس التقليدية هو سمة السوق بعد قرار حظر الاستيراد، لما له من رمزية تراثية ولأنه يفوح من عبق الماضي الذي يرتبط بذكريات طقوس الاحتفال بشهر رمضان، كما أنه أرخص سعرًا من الفانوس الصيني الذي تدخل فيه تقنيات عصرية.
ولكن الأزمة الاقتصادية ألقت بظلالها على سوق الفوانيس، حسب صفا، إذ تراجع الإنتاج جراء ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج والخامات المستخدمة في التصنيع، وعدم توافر بعض الأجزاء المكملة لصناعة الفانوس، لاستيرادها من الخارج ولأن الصناعات المغذية ليست موجودة في البلاد.
ويقدّر صفا حجم التراجع في الإنتاج بأكثر من 50%، إذ يراوح عدد الفوانيس المصنّعة بين مليوني فانوس ومليونين ونصف المليون فانوس، بدلًا من نحو 5 ملايين فانوس، خصوصًا مع استشعار المصنّعين أنه سيكون هناك ركود في الأسواق جراء ارتفاع الأسعار وإحجام المستهلك عن الشراء، إلى جانب رغبته في شراء سلع غذائية رئيسة.
ويتفق أحد المستهلكين مع ما يذهب إليه صفا من إحجام البعض، إن لم يكن الكثيرين، عن شراء الفوانيس أو الاكتفاء بشراء فانوس واحد فقط للبيت، بدلًا من عدة فوانيس لجميع أو بعض أفراد الأسرة، بسبب ارتفاع الأسعار وزيادة متطلبات الشهر الكريم.
ويردف أن “أوضاع الكثيرين تغيرت في العام الماضي، وأسعار السلع الرمضانية التي نحرص على شرائها لم تترك لنا كثيرا من المال لشراء ما نرغب من فوانيس، ولكنها عادة نحرص عليها ولا يمكن تركها حتى ولو بشراء فانوس صغير تقليدي يُدخل البهجة إلى نفوس كل أفراد الأسرة”.
ويرى أن جودة الفانوس المحلي تختلف بحسب سعر الفانوس، لكن في نهاية المطاف فإن المنتجات اليدوية أكثر صلابة من تلك المصنّعة بالماكينات (أو المصانع)، والأهم هو الحفاظ على التراث المصري وتوريثه للأجيال المقبلة التي لم تعد تبحث عن هذا النوع من البهجة.