غزة .. معركة التوثيق بين الذاكرة والنسيان

صحة غزة: ارتفاع وفيات التجويع الإسرائيلي إلى 266 بينهم 112 طفلا
امال الرطروط
05 أكتوبر 2025
لم تعد الحروب تنتهي حين يُعلن وقف إطلاق النار. فصمت المدافع لا يوقف نزيف الذاكرة، ولا يُعيد من غابوا تحت الركام. في غزة، كل صباح تبدأ حرب أُخرى من جديد، حين تفتح الأمهات عيونهن على الغياب، وحين يتحسّس الناجون نبضهم ليتأكدوا أنهم ما زالوا هنا، عالقين بين الحياة وما يُشبهها.
هنا، لا تُكتب القصص بالحبر، بل بالرماد، ولا تُروى الحكايات إلا بأصوات مبحوحة حملت أوزار النجاة، فكل حجر من هذه الأرض يحتفظ بشاهد، وكل نجاة تُعد شكلاً آخر من أشكال الفقد.
ربما ستنتهي الحرب و تنطفئ المدافع، لكن ستواصل إشتعالها في ساحات الذاكرة والرواية. فكتابة التاريخ بوصفه أداة للهيمنة أو للتحرر، يُعاد إنتاجه من خلال من يملك القدرة على توثيقه وسرده. و في زمن تتسابق فيه القذائف مع الكاميرا، يتحول التوثيق إلى فعل مقاومة، و تغدو الذاكرة جبهة لا تقل خطورة عن أي خط نار، فبعد كل حرب تبدأ معركة من نوع آخر، معركة الذاكرة، حيث يحاول كل طرف أن يفرض روايته على التاريخ. و في تاريخ النضال الفلسطيني، كانت و لا زالت معركة التوثيق و الأرشفة جزء أساسي من النضال الوطني للحفاظ على ذاكرة النكبة و سردية التهجير.

غزة و ذاكرة الإبادة
منذ إندلاع الحرب على غزة، شهدت الساحة الفلسطينية نشاطاً فردياً في مجالات الأرشفة الميدانية للأحداث وجمع الشهادات، وتوزعت جهود التوثيق بين مبادرات مستقلة داخل القطاع و شهادات أطباء دوليين وأرشفة على منصات رقمية تُوثق بالصورة والصوت ما يجري لحظة بلحظة. لا أحد منا يُنكر دور الكاميرا والسوشيال ميديا في توثيق المجازر وجمع الشهادات، و تصدير الحدث إلى العالم. فغزة لم تكن تواجه فقط الاحتلال، بل أيضاً ماكينة إعلامية غربية متحيزة له تنشر الأكاذيب وتشوه الحقائق لصالح الاحتلال، و بفضل جهود الصحفيين الميدانيين والشباب على مواقع التواصل لما عرف العالم حقيقة المجازر و الإبادة و معاناة الفلسطينيين في غزة، و لولا جهودهم في النشر ما كنا لنرى كل هذا التضامن الدولي الرافض للحرب و الإبادة. لكن بعيداً عن العمل الفردي للأشخاص، أصبح الآن من الضروري تفعيل لجان توثيق علمية رسمية من مؤرخين وباحثين و أكاديميين فلسطينيين و حتى دوليين، من خلال التعاون مع مراكز الأبحاث المختصة لتولي مهمة حفظ الأدلة والشهادات، خصوصاً في ظل غياب مؤسسات دولية فاعلة للعمل على توثيق جرائم الإحتلال وفي محاولة لحفظ الأدلة من الضياع وكتابة السردية الفلسطينية عن الإبادة. سردية من الذاكرة الحية للحرب، ذاكرة تُكتب بالصوت والصورة وبالكلمة، لتكون الدليل على أن ما حدث لم يكن “أضراراً جانبية”، بل سياسة مُمنهجة للإبادة و التهجير.

دروس من الذاكرة الأوروبية
بعد الحرب العالمية الثانية، خاض اليهود ومن نجا من الهولوكست معركة التوثيق. فبعد عام 1945، أدرك الناجون من الهولوكست أن العدالة تبدأ من الذاكرة. فسارعوا إلى تسجيل شهاداتهم، وجمعت مؤسسات يهودية مثل مؤسسة ياد فاشيم الإسرائيلية، آلاف الوثائق والصور والقصص الشخصية، و أُقيم متحف الهولوكست الأمريكي في واشنطن حتى لا تُمحى المأساة من ذاكرة العالم. لم يكن التوثيق حينها مجرد سرد، بل وسيلة للإعتراف، للعدالة، ولإقامة سردية جماعية تحمي الذاكرة اليهودية من التشويه.
لقد فهم الناجون أن ما لا يُوثّق يُنسى، وما يُنسى يُعاد. ومن هنا ولدت صناعة الذاكرة التي أصبحت أحد أعمدة السياسة الاسرائيلية الحديثة و التي أُستغلت حتى في الضغط على الحكومات.
و لم يكن الهولكوست فقط جزء من تاريخ أوروبا الأسود، ففي التاريخ الحديث، لازالت مجزرة سربرنيتشا في ذاكرة توثيق الإبادات، تلاحق أوروبا كأسوأ إبادة جماعية عرفتها أوروبا في ذاكرتها الحديثة.

التوثيق كعدالة مؤجلة
اليوم،  يجب أن يسير الفلسطينيون في الطريق ذاته، لكن في ظروف أكثر قسوة، فلا مؤسسات دولية تحميهم، ولا إعتراف عالمي بعدالتهم، ولا عدسات رسمية تُنصفهم.
لذا يشكّل الأرشيف الفلسطيني اليوم جزءاً من معركة العدالة المؤجلة، حيث يتحول التوثيق إلى أداة قانونية مستقبلية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم.
يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور إن السرد يُعيد للمعاناة معناها و يُعيد للإنسان كرامته الأخلاقية. وعليه، يصبح الأرشيف الفلسطيني رغم هشاشته المادية أقوى أشكال البقاء في وجه المحو و الإنكار، لأنه يحفظ الحق في الذاكرة كحق من حقوق الإنسان الفلسطيني في العدالة.
ومثلما وُثّق الهولوكست يوماً بشهادات الناجين، يجب على الأكاديميين و الباحثين الفلسطينيين ان يتولوا مبادرات لتجميع شهادات الناجين من الأطفال والنساء والكوادر الطبية بأساليب علمية حديثة بعيداً عن العبثية الفردية، وبناء وعي جماعي للتوثيق يتجاوز الخوف والإنكار، فهذه العملية ليست فقط لإنصاف الضحايا، بل لحماية الحقيقة من المحو السياسي والإعلامي. فالحرب الحديثة لا تُخاض الان فقط بالسلاح، بل أيضاً بالمعلومة وبالصورة.

الذاكرة كفعل مقاومة
التوثيق الفلسطيني اليوم هو امتداد لروح المقاومة، وجسر بين الأجيال. هو إعلان بأن الفلسطينيين لن يسمحوا بأن يُكتب تاريخهم بأقلام الآخرين. وكما تحوّل التوثيق اليهودي للهولوكست إلى ركيزة أخلاقية في الوعي الغربي، يمكن للتوثيق الفلسطيني أن يشكّل لاحقاً ملفاً أخلاقياً وسياسياً أمام محاكم العالم، وأن يضع الإبادة في غزة في مكانها الصحيح ضمن ذاكرة الإنسانية. التوثيق ليس فعلاً محايداً، بل ممارسة سياسية و قانونية وأخلاقية تُعيد تعريف العلاقة بين الذاكرة والتاريخ والسلطة و العدالة.

ختاماً .. من الشهادة إلى العدالة
ربما لا تُوقف الكاميرا الصواريخ، لكنها تحفظ الحقيقة. وربما لا تُنقذ الشهادة حياة، لكنها تُنقذ الذاكرة.
في عالم يعيد إنتاج الأكاذيب، يصبح التوثيق شكلاً من أشكال العدالة المؤجّلة، وعدالة الذاكرة لا تقل قيمة عن العدالة القانونية. فالتاريخ كما يقول إدوارد سعيد هو ساحة المعركة الأخيرة، ومن يملك ذاكرة الحرب يملك حقّ تعريفها.

 

  • صحيفة القدس
  • ي.ك