أشكر د. غانية ملحيس على سجالها ونقدها واختلافها في ردها على مقالي بعنوان «الطوفان وما بعده»، مقدمة بذلك نموذجاً ديمقراطياً حضارياً في مناقشة الرأي الآخر.
حقاً شجعني دفاعها العميق عن رأيها، إلى المزيد من المراجعة والتدقيق.
في البدء استوقفني تقديمها لنماذج ثلاثة لحل صراعات الشعوب مع المستعمرين المستوطنين، الأول: انتصار حاسم للغزاة المستوطنين كما حدث في الولايات المتحدة الأميركية، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلاندا. والثاني: انتصار حاسم للسكان الأصلانيين كما حدث في فلسطين بهزيمة الاستيطان الإفرنجي/ الصليبي/، وفي الجزائر مطلع ستينيات القرن الماضي.
الثالث: هزيمة النظام الاستعماري العنصري وتفكيك بناه والتوافق بين السكان الأصلانيين والمستوطنين على العيش في دولة واحدة يتساوى جميع مواطنيها أمام القانون، كما حدث في جنوب إفريقيا في مطلع تسعينيات القرن الماضي. وتحدت د. ملحيس وجود نموذج رابع يتقاسم فيه الأصلانيون وطنهم مع الغزاة المستوطنين.
إذا ما وضع أي شخص أصلاني فلسطيني أمام الخيارات الثلاثة، فلن يتردد أمام الانحياز للانتصار الحاسم لأبناء جلدته الأصلانيين، ولكن للأسف حرمنا الاستعمار البريطاني وحلفاؤه عشية وأثناء انسحابهم من فلسطين من حق تقرير المصير، عندما قرروا مصير فلسطين وشعبها من طرف واحد بالاستناد إلى وقائع استعمارية.
أود القول إن الغرب الاستعماري الذي أطلق وعد بلفور ومن بعده صك الانتداب المؤسسين على نصوص دينية توراتية واعتمد سياسة دعم الاستيطان اليهودي وقمع التحرر الفلسطيني، عمل هذا الغرب قصارى جهده لصناعة انتصار حاسم للمستوطنين حيث غابت عن «الوعد» و»الصك» حقوق الشعب الأصلاني الوطنية والتاريخية، غير أن النضال الفلسطيني حال دون انتصار حاس للمستعمرين الصهيونيين، خلافاً لعقيدة الاستحواذ الكامل على المكان – النموذج الأول -.
وبعد عقود من الصراع المحتدم، تقدمت لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة بمشروع قرار التقسيم الذي كان حصيلة للصراع على الأرض بين مستوطنين مستعمرين مدعومين من الإمبريالية البريطانية وبين الشعب الأصلاني المدافع عن وطنه، ونتيجة للتوازن الدولي الناجم عن صعود الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية كلاعب أساسي على المسرح الدولي.
رفضت القيادة الفلسطينية قرار التقسيم وعندما قبلت به في سياق مشروع تفاوض زعماء عرب وافق بعض الدول العربية ومنهم القيادة الفلسطينية على قرار التقسيم وعودة اللاجئين بحسب القرار 194، لكن بن غوريون رفض تطبيق التقسيم وعودة اللاجئين وهو في موقع المنتصر بحسب توم سيغيف، كتاب «الإسرائيليون الأوائل».
بعدئذ أبرمت اتفاقات الهدنة بين دول عربية وإسرائيل العام 1949 على حساب أراضي الدولة الفلسطينية.
وفي حقبة الخمسينيات والستينيات وإبان صعود الناصرية، والبعث في سورية والعراق ساد فكر قومي ينتمي إلى نموذج الحسم مع المستعمرين انتصاراً للشعب الأصلاني الفلسطيني، غير أنهم سرعان ما هزموا هزيمة منكرة في حرب 67، أفضت إلى اعترافهم بحدود إسرائيل في الرابع من حزيران 67.
وفي سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين تبلور مشروع إقامة دولة فلسطينية كحصيلة لتوافق فلسطيني عربي دولي، لكنه قوبل برفض إسرائيلي مطلق.
ما تقدم يشير إلى أن أي مشروع سياسي قابل للتحقيق في مدى زمني متوسط أو بعيد نسبياً، لا يستطيع القفز عن الموقف الدولي والعربي والإقليمي في صيرورته الهابطة والصاعدة.
لا يستطيع الانفراد بتبني قرار بهذا المستوى دون دعم الحلفاء وموافقتهم على المشروع. نستطيع تبني مشروع وطني جذري، وقد فعلنا ذلك في مراحل النهوض القومي وفي مرحلة اندلاع الثورة وصعودها، وكان بالاستناد إلى الناصرية والبعث والنظام الجزائري والنظام الليبي كان ذلك في مواجهة الصيغة الدولية للحل.
فلم يؤيد الحلفاء الاستراتيجيون – المنظومة الاشتراكية وحركات التحرر والحركة العمالية العالمية ودول عدم الانحياز، حق الشعب الفلسطيني في وطنه الكامل، ولعبوا دوراً مهماً في إقناع القيادة الفلسطينية بقبول قرارات الشرعية الدولية وحل الدولة الفلسطينية في الأراضي المحتلة العام 67.
شجع التفكير العقلاني الواقعي والبراغماتي على القبول بذلك، قبول استعادة حق نسبي ممكن مقابل حق مطلق هو أشبه بيوتوبيا معلقة في السماء، وحلم جميل يجلب سعادة نفسية غامرة.
كانت كل محاولة بحث عن الحق المطلق تصطدم بميزان قوى مختل بمستوى ساحق، وبخاصة بعد خروج مصر من الصراع – اتفاق كامب ديفيد – وبعد التدخل السوري في لبنان ضد تحالف الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وصولاً إلى اجتياح إسرائيلي للبنان نجح في إخراج قوات المنظمة وإغلاق آخر حدود عربية أمام مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
وقد تراجع الكفاح المسلح من أسلوب وحيد إلى أسلوب رئيس إلى إسلوب ثانوي بعد إغلاق كل الحدود العربية المحيطة بفلسطين.
القرارات الدولية تعتبر احتلال 67 للأراضي الفلسطينية والعربية غير شرعي وتدعو إلى إنهائه وإلى تقرير الشعب الفلسطيني لمصيره على تلك الأراضي.
وبهذا المعنى فإن النظام الدولي يقر بوجود استعمار إسرائيلي في 22% من أراضي فلسطين التاريخية.
الاستعمار تراجع في عديد الدول بمقاومة وثورات كما في الجزائر واليمن الجنوبي وسورية والعراق، وبانتفاضات واحتجاجات كما حدث في تونس والسودان ولبنان.
فهل يتراجع الاستعمار الإسرائيلي من الضفة والقطاع والقدس ؟ إن التراجع عن الاحتلال شائك لأنه يستند إلى أيديولوجيا دينية إقصائية، تعتبر أن الله منح بني إسرائيل أرض كنعان وهي أرض الآباء والأجداد، وأن الشعب الفلسطيني هو الطرف المحتل الذي ينبغي طرده. احتلال 67 عزز الجشع الاستعماري، وأضاف تحولات رجعية وعنصرية عميقة على المجتمع الإسرائيلي وأفرز فاشية استيطانية منظمة، لكنه رغم ذلك فإن إنهاء الاحتلال أمر ممكن بالنضال الشعبي والعصيان المدني وبالتضامن الدولي وباستنفار كل عناصر القوة القائمة والمحتملة، وبالعقوبات والضغوط على المصالح الإسرائيلية والأميركية.
كما أن التراجع عن الاحتلال فيه مصلحة لفئات مجتمعية إسرائيلية مناهضة للاحتلال والعنصرية، وتعترف بالحل الدولي للقضية الفلسطينية.
هذه الفئات من المنطقي أن تتسع مع كل انحسار للاحتلال والاستيطان.
نعم إن اضطرار دولة الاحتلال للتراجع سيضع أساساً موضوعياً لبلورة شريك إسرائيلي يتولى مهمة إعادة تأهيل المجتمع الإسرائيلي الذي جرى إغراقه بالعنصرية وبأطماع النهب.
كما أن إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية على أراضي 67 ستفتح المجال أمام بناء وتأهيل المجتمع الفلسطيني عبر منظومة قوانين وروافع في مجال التعليم والصحة والعمل والضمان الاجتماعي والحريات وحقوق المواطنة والأحزاب والتنظيمات، وتطوير الموارد، والاعتماد على الذات. وتفتح المجال أمام وحدة المجتمع والتجمعات الفلسطينية على أسس وطنية وحقوقية مشتركة.
ولهذا فإن الهدف المركزي لحكومات نتنياهو المتعاقبة ومعسكره الفاشي هو منع إقامة دولة فلسطينية ومنع تبلور الكيانية الفلسطينية وصولاً إلى الدولة.
ومع ذلك، فإن إنهاء احتلال 67 لا يحقق العدالة والمساواة بين المجموعتين السكانيتين، بل يفتح الأبواب المؤدية إليهما، من خلال نضال مشترك ضد العنصرية والكولونيالية الصهيونية التي أضعفها التراجع عن الاحتلال، والتي تزداد ضعفاً إذا ما التقى نضال الشعوب العربية ضد علاقات التبعية والنهب والاستبداد، بنضال الشعب الفلسطيني والشريك الإسرائيلي ضد العنصرية والكولونيالية الصهيونية.
هذا هو البديل لحسم الصراع الوجودي بهزيمة ماحقة لأحد طرفي الصراع. هو البديل لهزيمتنا بوصفنا الطرف الأضعف. وللنقاش بقية.
- صحيفة الأيام
- ي.ك