لا أقول وداعاً يا شيرين، لن تكون المرة الأخيرة التي نراك فيها، ولا المرة الأخيرة التي نسمع فيها صوتك، بالطبع يا غالية يا رقيقة يا كل هذا الحضور الطاغي المهذب الرقيق، بالطبع لم نكن نراك في برنامج تلفزيوني ساخر ولا نسمع صوتك تتضاحكين في سماجة مع ضيف ثقيل أو ممثل هابط أو مطرب من الدرجة الثالثة، أبداً لم يحدث ذلك، ولو كان فسوف تختفي ذكراك ويخبو ذلك البريق بمجرد أن يهيلوا فوق جثمانها التراب، فهي باقية ولن نقول لها وداعاً.
هل نقول لمرابطة على خط النار وداعاً؟ لن نقول لكل ذلك الحب للوطن والقضية والثوار والمرابطين والمحتجين في كل بقعة في هذا الوطن، في كل مكان تشتعل فيه ثورة ضد المحتل فأنت تسمع صوتها المغرد كطائر حط في المكان بجناحيه الرقيقين ويستطلع النبأ ثم يعود إلى العالم بالخبر اليقين.
شيرين أبو عاقلة كان لي معها لقاء عبر الهاتف قبل سنوات، حيث قمت بترشيحها كشخصية نسائية فلسطينية مؤثرة ضمن استفتاء أجرته مجلة خليجية نسائية كنت أعمل مراسلتها في فلسطين، في ذلك الوقت كتبت عنها ما تيسر من سيرة ذاتية مختصرة حصلت عليها مع بعض العبارات التي تعبر عن تقديري لها، وحين تم نشر اسمها كواحدة من ألمع الشخصيات النسائية في فلسطين كان علي أن أهاتفها وأتحدث معها وقد حصلت وقتها على رقم هاتفها من زميلها وليد العمري الذي أشاد بها وبجهودها ثم جاءني صوتها عبر الهاتف شاكراً ممتناً وممتلئاً بخجل طفولي لا يوصف، وعرفت من خلال حديثي المطول معها – خاصة أن الحصار كان ضارباً بشدة على غزة – أنها لا تحب الظهور الإعلامي الخاص بها وتحب أن تظهر من خلال عملها، تحب أن تظهر والنيران تشتعل خلفها من خلال التغطيات الساخنة، وتحدثت عن بعض ما تعرضت له من إصابات وحرصها على أناقتها وكذلك تصفيفة شعرها الذي غالباً ما يتحول إلى كتلة من الصوف الملبدة بسبب ركضها وتنقلها في مواقع الأحداث الساخنة.
لم ينتهِ اللقاء مع شيرين أبو عاقلة التي ارتبطت في ذهن كل فلسطيني بالثورة، وكانت صوتنا دوماً ودائماً وأصبحت صديقتي عبر موقع الفيس بوك ولم تسمح لنا ظروف العمل والانشغال سوى بتحيات قليلة متبادلة، ولكن الأهم من كل هذا أنني لم أتوقف عن متابعة حسابها الشخصي على الفيس بوك وكنت أشعر بالفرحة معها حين تقتنص بعض لحظات الراحة وتنشر صوراً لها وهي تتناول طعاماً سريعاً مع زملاء أو رفاق.
لن أقول وداعاً يا شيرين، واليوم جاءني الخبر الصادم الصاعق في الصباح الباكر، وحاولت أن أتخيل ثقب الرصاصة في رأسك الشامخ وجبينك اللامع وكيف أغمضت عينيك لآخر مرة، تلك العينين اللامعتين البراقتين المكللتين بهالة من التعب الذي أحببته وأصبح رفيقا لك.
شيرين أيتها الراحلة لن أقول لك وداعاً يا شيرين، لا أتخيل أنك قد ذهبت هناك وتركت معركتك الدائرة، المعركة التي كنت توثقينها في كل درب وكل تجمع يقول هنا فلسطين، أتذكرين يا شيرين مخيم جنين؟ أظنك تذكرين ولذلك قررت أن تكون محطتك الأخيرة في هذا المخيم الصامد القوي الجبار مثلك، إنه يشبهك وقد دعاك لكي تكون محطتك الأخيرة على ثراه ولكن لن نقول وداعاً يا شيرين، ثقي لن نقول وداعاً.
كيف نقول وداعاً وهذا الغاصب المحتل الماكر الذي لا يقيم وزناً لعهود ومواثيق ولا يرى سوى بعين حقده فلم يرَ سترتك الصحافية، صدقيني إن القصاص لك يا شيرين لن يأتي إلا حين يمنع الهواء عن هذا المغتصب كما منع الهواء عن صدرك العريض الفسيح مثل مرج من مروج فلسطين.
يا شيرين …. يا وجعنا يا شيرين يا ذاهبة هناك وتاركة آخر مهامك، إنني أقول لك لا وداع لك … سنظل ننتظرك … ما دامت المعركة الدائرة سوف نظل ننتظر العصفور المغرد … عصفور بين النار أنت يا شيرين.
- صحيفة الأيام
- ي.ك