كعك أُمي

كعك أُمي
سما حسن
28 أبريل 2022

طلب ابني الذي يعيش في الغربة منذ ثلاث سنوات مني أن أعلّمه طريقة إعداد كعك العيد الفلسطيني، وهو الكعك الذي يحبه واعتاد عليه منذ صغره، وقال لي في لهجة متحمسة: سوف أُعدُّه في يوم الإجازة، فقط أخبريني بالمقادير التي تستخدمينها لإعداد كمية صغيرة تكفيني، لا تتخيلي يا أمي كم أشتاق لكعك العيد، ولكني غير متحمس لشرائه من أي مكان. وابني يعيش في إسطنبول حيث يعيش أيضاً الآلاف من أبناء الجاليات العربية التي تهتم بإعداد كعك العيد كأحد طقوس استقباله، وهناك الكثير من الصفحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي تتبع نساء ومخابز عربية تعلن عن مقدرتها على توفير الكعك الذي يشكَّل على شكل أساور، وأحياناً يطلق عليه اسم « كعك الأساور»، فيما نطلق عليه اسم الكعك الفلسطيني لخصوصية مكوناته وطريقة إعداده.

بعد لحظات قليلة من طلب ابني أردف وكتب لي بتعبيرات كرتونية حزينة عبر موقع «الواتس آب» بأنه لن يفعل ذلك، فلا يمكن أن يجازف ويحاول إعداد كعك العيد الذي لن يشبه كعك الأُم كما قال، وأردف قائلاً: كعك أُمي هو قطعة من أُمي، وكل شيء تُعده أُمه يكون قطعاً من روحها وشخصيتها ولمساتها، لا يمكن أن يشبه كعك الأمهات بعضه البعض.

قال لي ابني إن كعك أُمي كما يحدث عنه رفاقه في الغربة يشبه رائحتها، ويمكنه أن يميّزه من بين أعداد لا تحصى من الكعك تحمل نفس الهيئة، ولذلك فهو مثل الرضيع الذي يسكت حين يشم رائحة أمه، وهو لن يشبع إلا حين يأكل طعام أُمه، وصنيع يديها من الكعك يساوي عنده الكثير.


من المؤكد أن الإنسان لا يشعر بقيمة الشي إلا حين يفقده، وهكذا يقول لي ابني دائماً، فهو اليوم وبعد ثلاث سنوات من الغربة يشعر بعظيم ما فقد من حميمية العائلة ودفئها، وكل الأشياء الصغيرة التي كانت تثير غضبه وسخطه اصبح اليوم في شوق تام لها، واليوم ومع قرب العيد، وحيث لا يشم من رائحته في الغربة إلا ما يراه ويحاول أن يعيشه او يتخيله عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من صور للأسواق والأمهات والعاملات المجتهدات بإعداد أصناف وأشكال من كعك العيد.

أذكر ان كعك أُمي لم يكن يوماً يضاهي بجودته كعك نساء أُخريات وقد اشتهرن بحسن إعدادهن للكعك، وكنت أسرح في سبب اختلاف كعك أُمي ولذته، فكعك أُمي لم يكن يوماً هشاً، ولأنها امرأة مقتصدة فقد كانت تبخل عليه بالزيت والسمن قليلاً، والنتيجة أنه لم يكن يوماً طرياً هشاً وبه بعض القساوة، ولكن رغم ذلك فلم أتذوق في حياتي بمثل لذة الكعك الذي كانت تعده أُمي، ولكل شيء يخصه من طقوس او خطوات أو مراسم وذكريات، وان لم تكن ذكريات فهي تسهم من قريب او بعيد وبشيء بسيط أو بكل قوة لكي يكون طعم كعك أمي مميزاً.

كانت أُمي تُعد عبوات من الكرتون لتخزين الكعك، والحقيقة ان هذا أول أخطاء أُمي التي تعلمتها لاحقاً وأصبحتُ أقوم بتخزين الكعك في عبوات معدنية لكي يحافظ على هشاشته، ولكن كعك أُمي حين يقضي في تلك العبوات المظلمة عدة أيام فهو يكتسب طعماً مميزاً، خاصة حين نكتشف أن هناك علبة من الكرتون مليئة بالكعك وقد أخفتها أُمي حتى مرّت أيام العيد، وحسبنا أن الكعك قد نفد من الدار، ولكنها تأتي وهي تلهث بفعل إصابتها المزمنة بمرض الربو، وتحمل بين يديها تلك العلبة الكرتونية وخلفها أحد إخوتي يحمل إبريقاً من الشاي وحيث تفوح منه رائحة النعنع الشهي، وتطلب من أخي ان يضع الإبريق ويسرع آخر لإحضار الأكواب الزجاجية على صينية معدنية، وتجلس أُمي وعيوننا مشدودة نحو العلبة الكرتونية ونكتشف الكعك المخفي ونكتشف طعمه الذي تغير بسبب التخزين، وقد تكون أُمي قد خزنته بجوار أحد البهارات أو التوابل، وتكتشف انه قد تغير طعمه وباتت رائحة ذلك البهار او التوابل عالقة به، ولكنه لا يزال شهياً ومحبباً ونتصارع عليه وتتسابق أيدينا نحو جوف العلبة الكرتونية لأنه ببساطة كعك أُمي.

 

  • صحيفة الأيام
  • ي.ك