صديق من النوع الثالث «طنّب» في مكاتب التحرير، وأربعة من المحرّرين انتخوا له. هذا عصفور دوري ضلّ فضاءه، أو ألجأه الثلج إلى مكاتب «الأيام» المُدفَأة.
القطّ يخشى الكلب عادةً أو يتحاشاه في الأقلّ، والعصفور يخشى القطّ أو يفرّ منه عادةً، وأربعة من المحرّرين انتخوا لعصفور «طنّب» بمكاتب «الأيام». يفرّ إلى نافذة تلو الأخرى، فيزداد العصفور ذعراً، ويلوذ، من فرار فاشل إلى آخر، إلى دهاليز صغيرة لا حصر لها بين طاولات المكتب وجدرانه، ثمّ يكرّر جسارة البحث عن فضاء الحرية.
❞
الهلع شدّة خوف الإنسان، ولعلّ الذعر شدّة خوف العصفور. والهرب منجاة الإنسان، والفرار منجاة الطير.
❝
يَنْبَطِحُ محرّر قسم الرياضة «فراس طنينة» أرضاً برشاقة الجنود الأغرار في تدريبات التأهيل لحياة الجندية، ويحاول الإمساك بالعصفور الذي يفرّ مذعوراً إلى فضاءٍ خادعٍ من زجاجٍ شفّاف.
يُسارع الشاعر غسّان إلى النوافذ، يفتحها الواحدة تلو الأخرى للرّيح المثلّجة، ليفرّ العصفور من قفصنا الزجاجي الهائل إلى فضاء حرّيته اللانهائي.
«مشهور» يرصد اختباءات العصفور بين ثنايا خشب الطاولات والجدران، وأنا الذي يودّ الإمساك بالعصفور بخمسة أصابع رخيّة من الرحمة، لأحسّ باختلاج الذعر العصفوري، كما أحسست به عندما كنت غلاماً صيّاداً للعصافير، بلا شفقة ولا رحمة. أريد أن أعتذر لك أيها العصفور المذعور حفيد الديناصور المثير للذعر.
أحسد «فراس» على رشاقته، كأنّ في كوعيّ ذراعَيه نوابض مشدودة، إذ ينبطح أرضاً بقامته المديدة. وأحسد غسّان على شفافية مشاعره وسوء ظنّه بي، ومشهور على نظرات عينيه الثاقبة. ولا أحد منهم يحسدني على نواياي: أن أتلمّس اختلاج عصفور مذعور، وأن أحسّ بمتعة انطلاقه من يدي الدافئة إلى فضاء بارد.
الكائن الذي استجار بدفء مكاتبنا، لا يقتنع بصفاء نوايانا في الانتخاء له ولتحريره من فضاء قفصنا الزجاجي إلى فضائه الرحب.
.. وأخيراً وجد العصفور، الهارب منّا والخائب من نوافذنا، الباب الكبير مشرعاً، «فمرق» منه كالسهم.
أحد الأخوين رايت، قال: إذا أردت الطيران بسلام تام، اجلس على الجدران، وراقب الطيور.
ومنذ محاولات الأخوين رايت وطائراتهما العجيبة، لا تزال سلامة الطيران هي الأكثر كلفة، لتكون الأكثر أماناً.
❞
ما هو الطيران؟ إنه «إدارة المخاطر». ما هي مخاطر الطيران؟ إنّ 80% من حوادث الطائرات تعود إلى خطأ بشري قد يبدأ بالتصميم، وينتهي إلى الطيار الذي هو خطّ الأمان الأخير.
❝
.. وذلك العصفور الدوري، صديق الإنسان من النوع الثالث، بعد القطّ والكلب، بماذا فكّر وأحسّ؟ ربّما بما يشعر به الإنسان من هلع، إذا أوشكت طائرة يستقلّها على السقوط. يقولون للمسافر: «على الطائر الميمون» والعصفور المذعور فر وهو يشتمنا أو يسترحمنا.. واللّه أعلم.
حسناً، يقولون: انمسخ الديناصور المخيف طيراً يطير، أو عصفوراً دورياً يجاور بيوت الإنسان، وارتقى كائن يشبه القرد إلى إنسان مخيف للعصافير، حتى ولو كانت نوايا أربعة من المحرّرين تحرير عصفور ضالّ من فضاء ضيّق إلى فضاء رحيب.
المصدر: صحيفة الأيام
ي.ك