لا يكاد يمرّ يوم في هذه الفترة دون أن يتصدر وزير الأمن القومي الكاهاني المتطرف إيتمار بن غفير عناوين الأخبار بتعليقاته الكثيرة على كل حدث يتعلّق بالحرب على غزة، أو الحرب مع إيران أو حزب الله أو الشؤون الداخلية الإسرائيلية كتجنيد الحريديم، وغير ذلك.
فإيتمار بن غفير يمثّل الصوت الأعلى في تيار الصهيونيّة الدينية اليميني المتطرف اليوم في حكومة نتنياهو، وقد أصبح حاليًا يشكل رأس الحربة الذي يستعمله رئيس تيار الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش في ضرب خصوم التيار داخل إسرائيل ورفع صوت اليمين.
فسموتريتش يعلم تمامًا أن قوة بن غفير تكمن في لسانه الطويل وشعبوياته التي تفيد تيار الصهيونية الدينية، حيث ينطق بما لا يستطيع غيره النطق به علانية، ويقوم بالدور المطلوب منه في هذا المسار بكفاءة عالية. ومن جانبه، فإن بن غفير يرجو بذلك أن يرسخ لدى أتباع اليمين في إسرائيل صورته باعتباره القائد القوي الذي لا يهاب أحدًا أو شيئًا، وأنه البديل الأقوى لبنيامين نتنياهو لقيادة معسكر اليمين بالكامل لا أقصى اليمين المتطرف فقط.
كانت التحذيرات قد انطلقت في أكثر من زاويةٍ من زوايا كوكبنا محذرةً من خطورة بن غفير والرعونة الواضحة في تصرفاته غير المتزنة. لكن المشكلة لا تتعلق بتصريحات هذا الأرعن أو تصرفاته الصبيانية التي دعت أعداءه في إسرائيل إلى تسميته “وزير التيك توك”، وإنما تتعلق بكونه المسؤول الأول عن أهم جهاز أمني تنفيذي في إسرائيل، وهو جهاز الشرطة الذي يتبع وزارة الأمن القومي التي يرأسها بن غفير. وهذا يعني بالضرورة أن متطرفًا مثل هذا بات المسؤول المباشر عن جهاز الشرطة المسؤول عن تنفيذ القرارات الحكومية الأمنية على الأرض.
وفي هذا المجال، فإن بن غفير بدأ منذ تسلّمه منصبه الاصطدام بالقوى الأمنية العميقة في إسرائيل، والتي لا تنظر إلى الاعتبارات السياسية بقدر نظرتها للاعتبارات الأمنية المتعلقة بحماية إسرائيل، حتى من إسرائيل نفسها.
ولعل أبرز الأجهزة المعروفة حتى الآن بتنحيتها الاعتبارات السياسية جانبًا والنظر إلى الأمور بمهنية بحتة لا يزال جهاز الاستخبارات الداخلية الإسرائيلي (الشاباك)، وهو الجهاز الأمني الأقوى والأكثر امتدادًا داخل إسرائيل، وهو مدعوم أميركيًا بشكل كامل، ويحظى بثقة عاليةٍ في الدوائر السياسية المختلفة في العالم، وخاصة في الولايات المتحدة.
وفي الحقيقة فإن المتابعين للشأن الإسرائيلي الداخلي لا تخفى عليهم علامات المعركة الدائرة بين بن غفير وجهاز (الشاباك)، والتي تدور فصولها في منطقة القدس والضفة الغربية أكثر من أي منطقة أخرى. فـ (الشاباك) أصبح يرى في بن غفير خطرًا حقيقيًا على إسرائيل.
فبينما يحاول جهاز (الشاباك) جاهدًا تخفيف الضغط على الجيش والحكومة الإسرائيلية في القدس ومنع تدهور الأوضاع هناك إلى صدام عنيف قد ينتقل إلى الضفة الغربية ويتحول إلى كابوس انتفاضة فلسطينية ثالثة، رأينا تيار الصهيونية الدينية الخلاصي يحاول جاهدًا طوال الشهور الماضية استغلال أحداث الحرب على غزة في محاولة الحصول على مكاسب جديدة في القدس، وفي المسجد الأقصى عبر التصعيد العارم في المسجد.
مستغلًا في ذلك الأوامر التي وجهها بن غفير لشرطته بتسهيل عمليات الاقتحامات المتتالية للمسجد الأقصى طوال فترة الحرب، في مقابل الضغط على الفلسطينيين في المسجد، ومنعهم بشكل كامل تقريبًا من الدخول في أول شهرين من الحرب، والضغط باتجاه تقليل أعداد الذين يسمح لهم بالدخول إلى المسجد الأقصى بعد ذلك.
مع قدوم شهر رمضان المبارك، رأينا بن غفير يتوعد بتطبيق سياسة “صفر فلسطينيين” في المسجد الأقصى، ليأتي جهاز (الشاباك) ويعاكس ذلك ويقدم رؤيةً مختلفةً اضطرت حكومة نتنياهو لتبنيها تحت ضغطٍ أميركي. وأدى تبني رؤية جهاز (الشاباك) حول التعامل مع شهر رمضان في الأقصى إلى إجراءات غير مسبوقة في المسجد الأقصى طوال شهر رمضان الماضي؛ هدفت لتخفيف الاحتقان الداخلي بقدر الإمكان، من خلال استعمال أساليب مختلفة في ضبط وتقييد أعداد الفلسطينيين في المسجد بأسلوب ناعم نسبيًا، ثم منع شرطة الاحتلال الناشطين المتطرفين في إسرائيل من أداء الطقوس التي كانوا يترقبون تنفيذها وعلى رأسها عملية التطهير بذبح البقرة الحمراء يوم عيد الفطر، والتي تبين لاحقًا أن القائمين عليها أجلوا تنفيذ الفكرة حاليًا؛ خوفًا من التهديد بالاعتقال من قبل جهاز (الشاباك) بتهمة تعكير الأمن الداخلي.
ومع انتهاء شهر رمضان المبارك وتبين النجاح النسبي الذي حققته رؤية جهاز (الشاباك) بدعم وإشرافٍ أميركي مباشر، فإنّ جماعات اليمين الصهيوني الديني المتطرف المدعومة من بن غفير بدأت التحضير لموسم اقتحامات عيد الفصح العبري، وبدأت الترويج منذ فترة مبكرة لضرورة أداء القرابين الحيوانية داخل المسجد ابتداءً من الليلة الأولى في هذا العيد.
ليأتي جهاز (الشاباك) ويتواصل مع القائمين على منظمات ما يسمى “اتحاد منظمات المعبد” المتطرفة، ويحذرهم من أداء الطقس داخل المسجد الأقصى، بل ويصدر قرارًا بمنع عدد من قادة هذه المنظمة ومنظمة “بيدينو” وغيرهما من دخول البلدة القديمة بالقدس لمدة ثلاثة أشهر.
فيرد بن غفير على تحركات (الشاباك) في اليوم التالي ويعلن نيته طرح تغيير كامل في الوضع القائم في المسجد الأقصى على جدول أعمال وزارته من خلال جهاز الشرطة الذي يسيطر عليه من خلال الوزارة، ويعلن نية وزارته إعلان “المساواة بين المسلمين واليهود في حق الصلاة” في المسجد الأقصى المبارك بشكل رسمي وقانوني، بما يخالف قانون الوضع القائم وحتى تفاهمات كيري لعام 2015، وتكثيف وجود الشرطة وكاميرات المراقبة داخل المسجد. بمعنى أنه يعلن بذلك منح الحماية القانونية الحكومية لجماعات المعبد المتطرفة التي تشكل ذراعًا من أذرع تيار الصهيونية الدينية في القدس.
وفي الحقيقة لا يمكن فهم هذه العملية إلا من خلال كونها تحديًا لجهاز (الشاباك)، ومحاولةً من بن غفير لإثبات نفسه في الساحة ولا سيما في القدس. وهذا ما شجع منظماتٍ متطرفة مثل منظمة “عائدون للجبل” إلى إعلان طرح جوائز تصل إلى خمسين ألف شيكل (حوالي 13 ألف دولار) لمن يتمكن من تهريب ماعز وذبحه داخل المسجد الأقصى خلال أيام عيد الفصح العبري هذا الشهر.
ولا ننسى هنا أن غضب المستوطنين توجه إلى بن غفير نفسه عندما أعلنت حكومة نتنياهو، بتوصيةٍ من جهاز (الشاباك)، إغلاق المسجد الأقصى في نهاية رمضان الماضي لمدة 16 يومًا بدلًا من 12 أو 13 يومًا، كما حدث الأعوام الماضية، حيث توجه المستوطنون إلى مستوطنة “كريات أربع” قرب مدينة الخليل – حيث يقيم بن غفير – وتظاهروا أمام بيته محتجين على عدم قدرته على تنفيذ وعوده لهم وفتح الأقصى لهم بشكل دائم.
وليس بعيدًا من كل ذلك إعلان بن غفير الأخير استعداده لاستيعاب جنود وحدة “نتساح يهودا” بالجيش الإسرائيلي في جهاز شرطة حرس الحدود بالضفة الغربية، وهي مليشيا تابعة لوزارته، ليكون إعلانه هذا هو الرد العملي الوحيد بين وزراء الحكومة الإسرائيلية على إعلان وزارة الخارجية الأميركية نيتها فرض عقوبات على وحدة “نتساح يهودا” بالجيش الإسرائيلي، التي تتكون من مجموعات من المتدينين الحريديم إلى جانب عدد من المستوطنين المتطرفين المعروفين باسم “فتية التلال”؛ بسبب الانتهاكات التي قامت بها هذه الوحدة في الضفة الغربية، وبينها قتل مواطن أميركي.
ليأتي إعلان بن غفير تحديه هذا القرار بهذه الطريقة محاولةً منه لجعل نفسه المرجعية والحامي الأول لليمينيين المتشددين في إسرائيل، وهو ما دعا رئيس المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد إلى التصريح بأن بن غفير يشكل خطرًا على دولة إسرائيل نفسها، وبأنه لم يسبق لوزيرٍ في مجلس الدفاع أن ألحق هذا القدر من الضرر بأمن إسرائيل وصورتها ومكانتها الدولية، وهو فعليًا نفس التقييم الذي يحمله له جهاز (الشاباك) المدعوم أميركيًا كما أسلفنا.
إذن فأمامنا جهتان تتصارعان في هذا الميدان: بن غفير ووراءَه تيار الصهيونية الدينية برئاسة سموتريتش وجموع اليمينيين في إسرائيل من ناحية، و(الشاباك) ووراءَه المنظرون الإستراتيجيون في إسرائيل والولايات المتحدة. ومن المرعب أن يكون ميدان هذا الصراع الآن ينتقل بشكل واضح إلى القدس، بل إلى قلب المسجد الأقصى نفسه. فانتقال ميدان الصراعات الإسرائيلية الداخلية إلى القدس والمقدسات الإسلامية مؤشر خطير على أن إسرائيل باتت تعتبر القدس ساحةً لتصفية الحسابات الداخلية.
ولئن كانت هذه الصراعات الداخلية الإسرائيلية تبدو نظريًا خارج إطار الاهتمام الفلسطيني والعربي والإسلامي، إلا أنها في الحقيقة مسألة في غاية الحساسية والخطورة، إذ إنها تعني أن الثمن الذي سيدفعه المسجد الأقصى والمقدسيون سيكون مرتفعًا أيًا كان المنتصر في المعركة الإسرائيلية الداخلية.
فالمعركة بين بن غفير وجهاز (الشاباك) لا تعتبر معركةً فرديةً أو شخصيةً، وإنما تعتبر في الحقيقة واحدة من تجليات الشرخ الكبير الذي يشق إسرائيل رأسيًا اليوم بين التيارات الدينية اليمينية، والتيارات اليسارية العلمانية، والأيام حبلى بالمفاجآت.
ولذلك فالواجب التنبّه لأي صغيرة وكبيرة تجري في المسجد الأقصى بشكل يومي، والكفّ عن التعامل مع الأقصى دون اعتبارٍ لخطورة ما يجري في الساحة الداخلية الإسرائيلية حوله، خاصةً في ظل الحديث والجدل حول القدس والضفة الغربية في داخل أروقة الحكم والأمن الإسرائيلية.
فالشيء الذي يجتمع عليه الإسرائيليون من كافة الاتجاهات هو العداء لكل ما يرمز للسيادة الفلسطينية أو العربية أو الإسلامية بين النهر والبحر، وإن لم تكن القدس والمسجد الأقصى الرمز الأبرز لهذه السّيادة.. فماذا يكون؟