النص الثالث عشر الذي نشرته في حياتي السابقة في جريدة فلسطين اليافاوية بتاريخ 6-7-1949، أُعيد نشره في جريدة «الأيام» الفلسطينية برام الله.
وكأن الدنيا انقلبت على رأسي، ما هذا الصمت الغريب الذي يأكل المكان؟ أين هم؟ ليلى وفايز ونعمان، وفؤاد، قبل ساعات كانوا هنا، لماذا اختفوا فجأة؟ أحضر وديع لي وجبتي، كان يمشي ببطء، بدا لي عجوزاً، كبر عشرين سنة في يوم واحد، ربت على ظهري، قبّل وجهي، أدخلني بيتي، بعد قليل جاءت روز زوجة وديع، انحنت تجاهي، وانهارت على وجهي وهي تبكي، ما الذي يحدث في هذا البيت الكبير؟
منذ استولى الأغراب على بعض شقق البيت، بعد احتلالهم حيفا، ووديع وروز يعجزان عن النوم، تفكّر روز بالعودة إلى (الدبية) قريتهما الأصلية اللبنانية، وديع يرفض بشدة: كيف أغادر حيفا التي عشتُ فيها أكثر من ثلاثين عاماً، بنيتُ فيها هذا البيت الكبير؟! ترجمتُ فيها كتبي عن طاغور وعمر الخيام، وألّفتُ فيها ديواني (الفلسطينيات) كيف أترك رائحة ياسمينة ابنتي ليلى التي زرعتها أسفل البيت؟
ذات ظهيرة رأيت وديعاً متوتراً جداً، طرق باب بيته شخص ما، فتح وديع، فإذا به حنا نقارة كبير محامي حيفا، سمعتُ نقاشهما الذي شاركت فيه روز، كان وديع رافضاً بقوة ترك حيفا، روز كانت مع الترك والعودة إلى لبنان فقد نغّص الأغراب حياتهما، وفرضوا عليهما إقامة جبرية، وهي لم تعد تطيق شتائمهم وتهديداتهم، ورميهم القاذورات أمام البيت.
لا رأي لي في هذا البيت، لا يستشيراني، وكأني طفلة لا قدرة لها على إبداء الرأي، هم فقط يُغرقاني بالحب والطعام والدفء، ويستمتعان بوجودي بينهما، ليتهما يعرفان أني أعرف كلّ شيء، وأرى كلّ شيء، ليتهما يستمعان لي؛ لأعبّرَ لهما عن تمسكي بالمكان، المكان الذي زرعت فيه ليلى ياسمينتها، وزرعتني معها فيه، متضامن أنا مع وديع، منذ وعيتُ على هذه الدنيا وأنا أعيش في هذا البيت بأمان وحب، ابنتهما ليلى كانت بصري، من خلالها رأيت العالم والأشياء، كنت أنام في غرفتها، تطعمني من طعامها، تجعلني أتفرج على رسوماتها، وتحكي لي قصصها مع صديقاتها في المدرسة، وأحياناً كانت تسمّع لي محفوظاتها، وحين أنام تغطيني بحنان، كانت صغيرةً جداً في السابعة من عمرها بينما كان عمري آنذاك سنتين، مرة من المرات مرضتُ مرضاً شديداً، بعد أن لدغتني أفعى، أخذوني إلى المشفى، وهناك كنت أطلّ من نافذتي؛ لأرى ليلى وهي تنتظرني باكيةً تحت المطر، عشتُ مع ليلى بضع سنوات، كانت أجمل سنواتي، أتذكر مشاركتها لي زراعة ياسمينة أسفل البيت على الشارع تماماً، كانت سعيدة جداً، قالت لي: إنّ الياسمينة ستكبر وستكون لي ولها، وأنّ رائحتها سوف تحرس البيت، لكن ليلى صارت جرحي الذي لا يشفى، وأرقي الليلي، أنزف غياب ليلى كلما أطلّ نهار، شيء مهم نقص بعدها، بعد احتلال الأغراب لحيفا رحلت حبيبتي اللطيفة إلى لبنان مع أشقائها، أتذكّر آخر لحظة رأيتها فيها، جاءت إلى غرفتي وهي تبكي، حملتني بين يديها، ونزلت بي إلى أسفل الشارع، وراحت أمامي تحضن ياسمينتها وتمرّغ فيها وجهها، كانت تفعل ذلك ناظرة إليّ بحزن شديد، كأنها كانت توصيني بشيء ما، ثم حملتني ووضعتني داخل الياسمينة، حتى صار وجهي هو وجه الياسمينة.
– أريد أن تحملي رائحة ياسمينتي إلى كلّ مكان يا ليكا حتى إذا ما حدث، وتخلّيتِ عنها، فأنت تتخلّين عن نفسك.
راحت تقبّلني وتشمّني وهي تقول: (احرسي الياسمينة يا ليكا، كوني ظلها، كوني أمها ولا تدعي الأغراب الذين سرقوا شققنا أن يشمّوها، أو يلمسوها).
منذ تلك الليلة وأنا لا أفارق الياسمينة، كنتُ أدع جسمي يقع فيها، أغفو فيها ساعات، ثم استيقظ؛ لأداعب زهورها البيضاء، أغمض عيني غارقاً فيها، كلما اقترب منها لصٌ من لصوص الشقق، أصيح عليه، فيبتعد، تعودتُ على وجودها، وصار اليوم الذي يمر دون أن أشمّها يوماً غريباً ومشوشاً.
في البيت وديع وزوجته روز وأنا، أحبّ هذا البيت الكبير الذي بناه وديع البستاني أمام شاطئ بحر حيفا قرب (شاطئ تل السمك)، عند ملتقى جبل الكرمل والشاطئ، أحبّ شققه التي على شكل سفينة، صمّمها مهندس موهوب هو إميل بستاني ابن أخ وديع الذي عاد من دراسته في أميركا، واستقر في حيفا.
بعد رحيل ليلى إلى لبنان، شعرتُ بوحدة كبيرة، حين أشتاق لليلى أسرع إلى الياسمينة، أذوب فيها، أجدّد فرحي بوجودي على قيد الحياة في هذا البيت، أسمع صوت ليلى وهي تقول لي: اغرقي فيها، كوني ظلها وزمنها، كونيها.
صار همي كل صباح أن أنزل مسرعة درجات العمارة؛ لأطمئن على ياسمينة ليلى، كان وديع وروز يطلّان من الشرفة وهما يشجعاني، ويصفقان لي، بينما الأغراب يطلّون عليّ باستياء وغضب.
جاء اليوم الرهيب، استيقظتُ فجراً على صوت روز ووديع وهما يبكيان، كان هناك أشخاص آخرون يتحدثون عن ضرورة العودة إلى لبنان، استطعت أن أميز صوت فؤاد ابن وديع، إلهي، أعاد فؤاد إلى فلسطين؟ ثم طرق البابَ آخرون، سمعتُ حديثاً عن تسليم البيت الكبير لوقف الكنيسة المارونية، حتى لا تصادره عصابات الأغراب.
انفجر صوت وديع، سقط شظايا على الأرض: آه يا حيفا سامحيني.
إنه اليوم الأخير إذاً لنا في حيفا، دخلت روز إلى غرفتي، كانت تمشي متعثرةً، وفي عينيها دموعٌ تبلّل ثيابها، عانقتني بقوة، حملتني بين يديها، هبطنا الدرج جميعاً، كنتُ أعاني من دوار، لم أصدق أنّنا الآن نرحل عن حيفا، رأيتُ عربة إسعاف تقف خارج البيت، هبطنا الدرج ثلاثتنا، أنا ووديع وروز، الدموع تقفز على الدرج أمامنا، خلفنا كان أبو فارس حارس العمارة، يحمل حقائبنا، مردداً: لاحول ولا قوة إلا بالله، على باب العمارة كان المحامي حنا نقارة ينتظرنا حزيناً مضطرباً، حين وصلنا إلى الياسمينة تسمّرنا هناك، وانفجرنا بالبكاء، رفضتُ الصعود إلى السيارة، جرّني أبو فارس جرّاً، رماني في المقعد الخلفي، صحتُ بأعلى صوتي: من سيحرسُ ياسمينة ليلى يا وديع؟ وضع وديع رأسه بين يديه، وراح ينشج كالأطفال، تحركت السيارة، كان حنا نقارة يحاول تهدئتنا بلا جدوى، وصلنا رأس الناقورة، وقبل لحظة دخولنا الحدود اللبنانية، رأيت وديع يفتح النافذة؛ ليودّعَ هواء البلاد، رحت أفرك جسدي بجلد مقعد السيارة، فاحت رائحة الياسمينة، ومن هذه الرائحة سمعت صوت ليلى: (احرسي الياسمينة يا ليكا، كوني ظلها، كوني أمها، كونيها، ولا تدعي الأغراب الذين سرقوا شققنا أن يشمّوها، أو يلمسوها).
لم أستطع أن أقاوم وصية ليلى، رأيتُ نفسي أقفز من نافذة السيارة، سمعتُ صدى صيحة روز: ليكاااااااااااااااااااااااااااا! عودي.
ركضتُ بكل قوتي عائدةً إلى وجهي، المسافة بعيدة جداً بين رأس الناقورة وحيفا، لكن ياسمينة ليلى قريبة جداً من قلبي، أركض وأركض إلى قلبي، ذيلي يكاد ينفصل عنّي، لا أنظر خلفي، ولا أهتم لزمامير السيارات وصيحات الأطفال في الطرقات: انظروا الكلبة المجنونة! انظروا الكلبة المجنونة!
المصدر: صحيفة الأيام
ي.ك