اشتقت إلى أميري

اشتقت إلى أميري
زياد خدّاش
15 مارس 2022

هذا هو النص الثامن الذي نشرته في حياتي السابقة بجريدة فلسطين اليافاوية العام 1948 أعيد نشره في جريدة الأيام الفلسطينية.

اشتقت إلى أميري. أنا آلة بزق، نعم، آلة بزق، لست رجلا لست امرأة، لست طفلا، أنا كل الأعمار والعوالم، لي أسماء عديدة مثل الطنبور، سيتار، وديوان، لدي ذاكرة ممتدة وداخلي قلب حار وألف شجرة، وعيوني واسعة وحساسة، عدد أوتاري سبعة، عازفي شخص مشهور، أصابع يديه، ليست أصابع، هي قلوب، نعم هذا الفنان يعزف على أوتاري بقلوبه، أنا الابنة اللطيفة وحمص البعيدة وأخته الميتة، وأبوه الرائع، أنا كل أحلام هذا الفنان التي لن تحدث، لا أتذكر يوم مولدي بالضبط، لكني أتذكر تماما اللحظة التي رأيت فيها العالم، من خلال أصابع صغيرة، نعم أنا من مواليد هذه الأصابع، هذه الأصابع عيوني، لا أرى العالم إلا من خلالها، تتوقف الأصابع عن العزف فأتوقف عن التنفس.

صاحبي اسمه محمد عبد الكريم، من حمص – سورية، لقبه أمير البزق، أميري، تجولت معه في كل بقاع العالم، فرنسا وألمانيا، والقاهرة، والقدس، أجمل المدن كانت القدس، هناك كان قلبي يغني بين أصابعه، وتعرفت معه على عديد من الموسيقيين مثل يوسف بتروني ويحيى المسعودي، وروحي الخماش، ومحمد غازي، لكن أجمل لحظاتي في القدس كانت حين تقدمته وهو يشارك في افتتاح إذاعة القدس، وقد عمل عازفا ضمن فرقتها الموسيقية، كنت أنا أميرة آلات هذه الفرقة، التي طبقت شهرتها الآفاق، وكنت شاهدة على تلحين أميري لأغنيات الكثير من الموسيقيين العرب.

أيّ حظٍ هذا الذي منحني الله إياه، أن أكون رفيقا قريبا من هذا الأمير، وأن يصبح هذا الأمير أميري، أيّة أيامٍ حلوة أمضيناها معاً أنا وهو، نتجوّلُ من حفلةٍ إلى حفلة، ومن مدينةٍ إلى مدينة في فلسطين التي أحببنا. كان أميري قزماً، وكنتُ أنا قزمة، كثيراً ما كان يداعبنا الأصدقاء وهم يقولون: لقد تزوّج أمير البزق من آلة البزق، أصبحنا شخصاً واحداً، وكان أمير قلبي يضحك، ولم يحدث مرة وأن غضب من تندر الأصدقاء على قصر قامته، كنتُ أنامُ قربه في غرفة في وادي الجوز بالقدس، أهدتنا إياها إذاعةُ القدس.

كان جارنا شيخاً مُعمّماً، يعيش مع زوجته وابنه الشاب، كان حنوناً جداً ولطيفاً، ويسألُ عنّي، وعن أميري باستمرار، كان يعمل إماماً في المسجد الأقصى القريب، وكان ابنه شغوفاً بالموسيقى، وبالآلات الموسيقية، وكثيراً ما كان أميري يسلمني إلى هذا الشاب (اسمه جمال) قائلا لي: اذهبي إليه، كوني رفيقة لطيفة، امنحيه السلام والإيقاع والهدوء، وكنتُ اسلمه نفسي، فيعزفُ على أوتاري بفرح غامر وهو يقفز من مكان إلى آخر.

 

في تلك الأيام كانت الثورة الفلسطينية في العام 1936 قد بدأت تشتد، وتنتشر في كل المناطق، وكان أميري يزورُ الثّوار في أماكن تواجدهم المختلفة في أنحاء القدس، في المصرارة والطالبيّة والقطمون ومناطق أخرى، وكنتُ دائما برفقته، أُسلّي المقاتلين وأُهدئ وحشتهم واُشجّعهم، وأُفرحهم، كان أميري يحب فلسطين جداً، ويكره الصهاينة، وكان يقولُ دائماً للثّوار حين يلتقيهم: آه، لو أستطيعُ أن أحملَ البندقية مثلكم؛ لحاربتُ واستشهدتُ دفاعاً عن فلسطين، ولكنّ دوري في الحياة هو أن أحملَ هذه الآلة الحبيبة، وأتجوّل بها في كل مكان، أُدافعُ عن الحقّ والجمال والحب والعدالة.

ما حدث بعد ذلك يشبه الأحلام، اقترب موعد سفر أميري إلى الشام، في ذلك المساء قبل سفره بليلة واحدة كنا نسهر في بيت الموسيقي محمد خماش، كان قلبي يرقص على إيقاع أصابع أميري، في السهرة أتذكر شخصيات ثقافية ووطنية واقتصادية وأدبية، كانت تجلس سعيدة وسط إيقاعاتي منهم المناضل بهجت أبو غربية، والمفكر خليل طوطح والكاتب عادل جبر، والشاعر إبراهيم طوقان والمعلم جورج خميس، وآخرون، في آخر السهرة، دخل جمال ابن جارنا في وادي الجوز، كان يحمل بيده بندقية، سلم على أميري بحرارة، واقترب من أوتاري وأهداها قبلة، خرجنا من بيت محمد خماش بالقدس، رفقة جمال الذي عرفنا من خلال الحوار معه انه التحق بكتائب الجهاد المقدس، في الطريق سمعت جمال يقول لأميري: آه كم أحلم في أن امتلك بزقا مثل بزقك يا عمي محمد، أريد أن استشهد وأنا احمل بزقا وبندقية، صمت أميري لدقائق، توقف عن المشي، كنا قد وصلنا باب حطة في البلدة القديمة بالقدس، في الطريق إلى وادي الجوز، حملني أميري بين يديه ووضعني كطفل بين يدي جمال، ارتجف جمال: يا عمي، هذا كثير، هذه لك، وهي تعشقك، لا استطيع أخذها. كانت لحظة صعبة على روحي، لا أريد أن أفارق أميري، فقد تعودت على رائحة أصابعه ووهج قلبه، في ذات اللحظة أحب أن أكون رفيقة لمناضل قرر أن يستشهد وبيده جسدي وبندقية، وصلنا البيت، دخل جمال بيته وفي حضنه أنا ودموعي، مشاعري مختلطة، آه كم احب أميري، وكم احب فلسطين، عزف جمال على قلبي حتى آخر الليل، في الصباح، خرجت معه، بيده كنت أنا وفي الأخرى بندقية، كان أميري محمد عبد الكريم قد غادر فلسطين، وهكذا صرت رفيقة ثائر فلسطيني يخرج إلى المعركة كل صباح، يعزف ويطلق الرصاص.

في بيت سوريك العام 1947 آخر معارك رفيقي جمال، كنت أتمايل على كتفه، والرصاص يلعلع حوله وأمامه، لم اكن أخاف من موتي، كنت أخاف عليه، هو الذي احبه أميري وسلمه قلبي، الهدف من المعركة كان قطع طريق المواصلات بين الساحل والقدس، لإرباك خطط الصهاينة، لم افهم كيف سقطت فجأة عن كتف جمال، رأيته يصيح: آه يا فلسطين، والدم يتدفق صدره، لم استطع فعل أي شيء، صعقت لاستشهاد جمال وتخيلت أميري وهو يبكي رحيل جمال، يد قوية ما سحبتني أنا وجمال، أخذت اليد القوية جثة جمال إلى مكان آخر، بينما رأيت نفسي في بيت جديد في أحضان طفل سعيد يلعب في أوتاري بمرح، بعد أيام رأيت نفسي مع ثوار آخرين في معارك أخرى ثم في حضن طفل آخر في بيت آخر، فيما بعد عرفت أنني تعاقبت على أكتاف ثوار كثيرين، في معارك جديدة وجبال أخرى، آخر الشهداء كان حسن من بيت صفافا، مات في معركة القدس الأخيرة، بعده كنت في أحضان طفله، في تلك الأيام كنت قد هرمت، وضعفت أوتاري، وصدأ جسمي، يحاول، الآن، الأحفاد في هذا البيت العزف على أوتاري فلا يخرج صوت، ما زالت ذاكرتي قوية، ما زلت اشتاق إلى أميري، أين تراه، الآن.

زياد خداش. جريدة فلسطين اليافاوية

٩-١-١٩٤٨

 

المصدر: صحيفة الأيام

ي.ك